الحب
كما قيل أوله جد و آخره هزل فالحب من أرقى المشاعر و الأحاسيس التي تتجذر
بالذات الإنسانية و يصعب اقتلاعه منها. فالحب طهارة ونقاء للروح و كل محب
يختزن مشاعره و أحاسيسه الكبرى في شيء بسيط و جميل و لكنه يحمل أنبل
المشاعر، لكن أغلب المحبين يميلون إلى الورود، تلك النبتة البسيطة التي
حملت رسائل عجز اللسان عن نطقها.
وردة بين الاشواك
استيقظت
من نومها بتثاقل تحت صياح الديكة النشيطة. فنهضت من سريرها القاسي وهي
تفرك جفنيها الناعسين ثم اتجهت نحو المطبخ لتجهيز طعام الإفطار . هذه هي
حياة حنين تلك الفتاة اليتيمة التي تقطن رفقة أخيها حاتم في كنف بيت مهترىء
داخل أحضان الصواريخ الصهيونية وسط كومة من البيوت المخربة. حنين فتاة لم
تتجاوز الثامنة عشرة سنة بهية الطلعة حسنة الملامح تطابق في حسنها قول
الشاعر
هيفاء يخجل غصن البان قامتها لم يحك طلعتها شمس ولا قمر
وتوج
جمالها الخلقي بعرش ملكة الطيبة و حسن الأخلاق فقد اشتهرت بشدة حياءها و
شدة حنانها وعطفها ولين قلبها و احترامها للكبير و حبها للصغير. واقتصرت
حياة حنين في ثلاث شؤون تمضي في قضاءها طيلة أيام الأسبوع وتتمثل أساسا في
انشغالها بقضاء شؤونها المنزلية والخروج للمستشفى لمساعدة شقيقها الجراح و
أحيانا تقوم ببعض الأعمال التطوعية المتمثلة في تعليم الصغار القراءة
والكتابة والقراءة في المساجد.
و ذات يوم بينما كانت حنين تقوم ببعض
الأعمال المنزلية إذ بها تسمع وجيه (ضجيج) أمام باب المنزل فأسرعت مستطلعة
الأمر و أرهفت السمع فتيقنت من أنه صوت شقيقها.
-يا محمد أنت في حاجة
إلى مأوى الآن... تعال إلى منزلي و سأرسل أختي للعيش رفقة جارتنا العجوز
ميمونة فهي عجوز طاعنة في السن وحيدة لن ترفض إذا أقامة أختي معها فقد دعت
أختي لمؤنستها مرات عديدة فلن ترفض إذ أطالت شقيقتي المكوث عندها هذه
المرة.
_ و لكن هذا محرج ...... لا أستطيع ...... شكرا لك على كل حال
فقاطعه حاتم قائلا
_ لا...........أنت صديقي و في ظروفنا الحالية لا وقت للشعور بالخجل
نظرت حنين من خلال فتحة الباب إلى صاحب هذا الصوت العذب فقد أغرمت بصوته قبل أن ترى ملامح وجهه
عشقته عندما أوصافه ذكرت و الأذن تعشق قبل العين أحيانا
و لما نظرت إلى ملامح وجهه عبر فتحة الباب أحست بمحركات قلبها قد توقفت، شاب من أحسن الشبان يكل عن وصفه اللسان.
تأملت تقاسيم وجهه المليح و أصغت لعذوبة صوته الرخيم و فجأة تقدم شقيقها تجاه المنزل فارتبكت حنين
و لم يكن أمامها سوى الفرار إلى المطبخ و تظاهرت بانشغالها ببعض الشؤون.
_ حنين...
_ نعم يا أخي العزيز
_ تعالي .... لي خبر يجب أن أناقشه معك
فتساءلت ببلاهة
_ خيرا إن شاء الله
_
صديقي محمد فقد عائلته و منزله اثر انفجار قنبلة ناسفة و أنا تشاورت مع
الخالة ميمونة بشأن مكوثك معها ريثما يقتني محمد منزلا جديدا.
_ حسنا سأذهب الآن لتجهيز ملابسي
و
انتقل محمد للعيش رفقة زميله في العمل. فكانت حنين تنشغل بتنظيف المنزل
وترتيبه و إعداد الطعام أثناء خروجهما للعمل ثم تعود أدراجها لمنزل العجوز
فحين عودتهما. و قد ازداد إعجاب
حنين بمحمد وولعها به فكلما تطلعت في
تقاسيم وجهه المليح أحست بانشراح كبير في صدرها و لم تكن حنين المغرمة
الوحيدة بقصص الحب المتمثلة في تبادل النظرات و الابتسامات فقد وقع
محمد
في شرك الحب الأعمى و ولع بجمالها الأخاذ. و أراد مفاتحة شقيقها بشأن
خطبتها و لكنه تردد خوفا من أن يظن حاتم أنه يطمع بالظفر بالمنزل فأراد
تأجيل أمر الخطبة بعد العثور على
منزل. و لكن القلب لا يعرف طريق
الصبر فخشي من أن يخطب حنين شاب آخر فتحلى ببعض الشجاعة و عزم على مفاتحة
محمد بأمر الخطبة فقال له ذات ليلة
-حاتم أنت صديقي منذ زمن طويل و أنا ممنون لك و لن أنسى جميلك ما حييت و أنا لي طلب بسيط و أرجو أن لا تسيء فهمي....
_ أنا صديقك منذ الطفولة يا محمد و لن أسيء الظن بك أبدا فسرك سري و لم يحد صداقتنا أسرار أليس كذلك؟
_
بالطبع و أنا لجد سعيد بثقتك الشديدة لي.... في الواقع كنت أطمع بأن أزيد
من صلابة وثاق صداقتنا والقصد أني أريد أن أحل سهلا و أحل على أختك بعلا
فانشرح صدر حاتم لدى سماعه هذا الخبر وقال
_
نعم الرفيق و نعم الزوج و لكم تمنيت حصول هذا الحدث العظيم منذ زمن طويل و
أنا الآن فهمت مصدر خجلك و أنا أأكد لك ثقتي الكبيرة في صدقك و حسن نيتك و
أنا أطلب منك المكوث رفقتي مدى الحياة إذا قبلت بك أختي زوجا و أنا سأغضب
إذا رفضت دعوتي وكما يقول الشاعر
لحافي لحاف الضيف و البيت بيته و لم يلهني عنه غزال مقنع
_ حسنا و لكن أتظن أن شقيقتك سترفضني
_ غدا نعلم
ارتمى محمد فوق سريره فتطاير النوم من عينيه لطول التفكير فقبع طول الليل يتقلب كأنه نائم على جمر اللظى.
في
الصباح الباكر أسرع حاتم صوب منزل الحاجة ميمونة فطرق الباب طرقات متتالية
فخرجت حنين مستطلعة هوية الطارق فما أن رأت وجه أخيها أحست بانقباض شديد
فظنت أن مكروها حدث لمحمد فلاحظ حاتم ارتباكها الشديد فاقترب منها وعانقها
مهدئا إياها و أخبرها سبب قدومه و استشارها في موضوع خطبتها.
و ما أن سمعت الخبر أحست بحرارة شديدة قد طغت على جسدها و تمنت لو أن الأرض انشقت و ابتلعتها لشدة الخجل و الحياء فهي
لم تسبق أن تحدثت مع شقيقها في موضوع يخص حياتها العاطفية من قبل أو بالأحرى لم يسبق لها أن تحدثت مع شقيقها في
موضوع
شخصي حول حياتها الشخصية فكل المواضيع التي يتحدثان عنها انحصرت في مناقشة
الأحوال السياسية المتردية التي طغت على البلاد و أحيانا مناقشة تضاعف حجم
المصابين و المستشهدين في المستشفى و أحيانا يستذكران الحنان الأبوي الذي
حرمه منهما المستعمر.
و عندما لاحظ حاتم ارتباك أخته و صمتها اعتقد أنها غير موافقة فتساءل بقلق
_ هل أنت موافقة؟
فطأطأة رأسها معبرة عن موافقتها مخفية ابتسامة لطيفة بين ثنايا كمها.
فأسرع حاتم للمنزل مبشرا صديقه بموافقة أخته. و ما أن سمع محمد بالخبر قفز فرحا وأنشد طربا
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ما لذة العيش إلا للمجانين
ثم جننت فهاتوا ما جننت به إن كان يشفي جنوني فلا تلوموني
و
انطلقت بذلك استعدادات العائلة لحفل الزفاف و استنجدت حنين بمساعدة جارتها
لبنى التي ستخيط لها ثوب الزفاف أما جارتها ميمونة فقد اهتمت بإعداد
حلويات الزفاف أما الشباب فقد تفرغوا بتصليح المنزل و تجهيزه.
فمضت
الأيام و الأسابيع و لم يبقى إلا أسبوع واحد على موعد الزفاف وعقد القران.
فاجتمعت العائلة و الأصدقاء في منزل حاتم وحنين و أخذوا يتشاورون في وضع
اللمسات الأخيرة للحفل المنتظر و بينما كانوا في حديث و نقاش إذ بهم يفزعون
على صوت طرقات مسارعة على باب المنزل شبيهة بصوت الرصاص المنبعث من
الرشاشات فهب محمد من مقعده و أسرع في فتح الباب فإذا به نوار ابن جارتهم
خديجة القاطنين خلف منزلهم .
و نوار هذا صبي يبلغ اثنا عشرة سنة قدم من منزله طالبا يد العون من جيرانه و ذلك بسبب الانفجار الذي حدث قبل دقائق في عمارتهم.
فهبت
العائلة كلها لنجدته و ما أن وصلوا إلى مكان الانفجار هالتهم المناظر
البشعة فالأراضي مخضبة بالدماء و الرؤوس متدحرجة هنا و هناك أياد و أرجل
متراكمة تحت أكوام التراب و الجثث أخرجت من تحت الحطام مسودة الوجوه و
الثياب.
و ارتمى الحاضرون في إزاحات الحجارة و إخراج المصابين و
المستشهدين. و قد أمضت العائلة الليل بأكمله و هم ينقبون على الجثث الأحياء
منها و الأموات و عند السحر انصرفوا من ساحة الوغى سائرين و إلى منازلهم
قاصدين.
هذه المواجع و المصائب تحدث بين الفينة و الأخرى و هي تعتبر
أحداثا عادية بالنسبة إليهم و لن يؤجل بسببها حفل زفاف حنين. و لكن
الصهاينة لم يكتفوا بانفجار واحد بل تواصلت الانفجارات لمدة أربعين يوما
فانشغلوا بالعمل في المستشفى ليلا و نهارا و نسوا أمر الزفاف .
و
مضت ستة شهور متتالية و أقرت العائلة بتعيين يوم الخميس موعدا جديدا
للزفاف. و أدخل هذا الحدث البهجة في قلوب الأصدقاء و الجيران الذين ملوا من
الأحزان جراء المجازر التي حدثت لهم.
و يوم الأربعاء خرج محمد لقضاء بعض الحاجيات لحفل الزفاف فحدث ما لم يكن متوقعا. جاء شاب في مقتبل العمر ليفجر قنبلة لها
تأثير
أضخم من متفجرات الصهاينة فلو أن قنابل الصهاينة كانت تفجر الأجساد فان
قنبلة هذا الشاب تفجر القلوب و الأحاسيس فأعلمهم بأن محمد خطيب حنين قد
أصيب بإصابات بليغة و هو الآن في المارستان فما أن سمعت حنين هذا الخبر هبت
مسرعة إلى المستشفى حافية القدمين من شدة هول المصيبة التي حلت بها. فهذه
هي المرة الثانية التي يؤجل من خلالها حفل الزفاف.
وصلت إلى المستشفى دامية القدمين جراء دوسها على الأحجار و الأشواك التي ألقيت أمام طريقها.
"يا الله ما هذا الحظ العاثر فكلما اقترب الفرج ينقلب إلى نكد...... يالله صبرني على هذه المصيبة"
دخلت حنين إلى غرفة خطيبها لتطمئن عليه. كان غارقا في غيبوبته مضمدا موصولا بقارورة السائل المغذي.
و
عند خروجها من غرفة خطيبها سقطت من عينيها الجميلتين دمعتان ممزوجتان
بمرارة القهر و الحزن فحضنها شقيقها و قبلها مخففا عليها هول المصيبة و قال
لها بصوت يملؤه الحنان و الرقة
_ يا أختاه هذا أمر مكتوب على جباهنا بتقدير من الله عز و جل و جرى القلم بما حكم و لا ينفعنا إلا الصبر .
مكث
محمد مدة شهر في المستشفى و ما أن استعاد عافيته أعادوا ترتيب حفل الزفاف و
دعت حنين الله بكل جوارحها بأن يتم حفل الزفاف بخير هذه المرة.
و في
اليوم الموعود تم تزيين الحي بالشرائط الملونة و اجتمعت الأحباب و الأصحاب
للمشاركة في الأفراح و تصدر العروسان و الشيخ بينهما و الشهود واقفة إلى
جانبهما ووزعت الحلويات و المشروبات و عمت الزغاريد الأجواء و غطت الموسيقى
صراخ الرضع المزعج و امتلأت أنحاء الدار بالحاضرين . الكل سعيد الكل يشارك
في الفرح لكم انتظروا هذه اللحظة السعيدة التي عثرتها الأقدار و لكن محمد و
حنين صبرا على ما كتب الله لهما و كما يقول الشاعر
بني آدم لا يهزأ بك الأمل عن كل ما ادخرت كفاك تنل
وقف
العريسان للبس خواتم الزفاف تلك الخواتم الصغيرة لكنها كبيرة في دورها هي
رمز للحب و الوفاء بل رباط مقدس يجمع القلوب و يربطها بطقوس الزواج و
عاداته و تقاليده.
ألبس العريس العروس خاتمها الماسي و حان دور حنين
لوضع الخاتم في بنصر زوجها و لكن قبل أن يستقر الخاتم في مكانه المحدد نزل
عليهما الساحق و اللاحق و البلاء اللاحق و طرق باب منزلهما هذه المرة هازم
اللذات و مفرق الجماعات و مخرب البيوت و معمر القبور . لقد أرسل اليهود هذه
المرة المتفجرات و الصواريخ المدمرة على منزل حنين و حاتم و حرموهما من
إتمام حفل الزفاف الذي عرقلوه مرات و مرات.
لقد كتب على طيرا اليمام
بالفراق كان نصيبهما منعدما في هذه الحياة كان مكتوبا عليهما اللقاء هناك
في جنات الفردوس الأعلى قرب الشهداء ’ قرب الأنبياء ، مشروبات الزفاف من
نهر الكوثر ، الحلويات ستكون من جنات عدن ، و سيوزع حور الجنة المشروبات و
الحلويات ، هنا لن يحضر جميع أفراد عائلة حنين و محمد حفل الزفاف ، لكن
هناك سيحضرها الجميع ، أبوها ، أمها، جدها، خالتها، كلهم سيحضرون، بئسا
لهؤلاء الكفرة المجرمين ، ظنوا أنهم حطموا هذا الزفاف برشاشاتهم و مدافعهم و
لكنهم
أرسلوهم لإتمامه في مكان أرقى و أجمل وأكثر أمانا، فسبحان الله
الحي الذي لا يموت و قد خلق و قضى عليهم بالموت وهو أول بلا ابتداء و آخر
بلا انتهاء.